واحتقرت نفسي

واحتقرت نفسي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْبُرْهَانِ   وَالْعِزِّ وَالْمَلَكُوتِ وَالسُّلْطَانِ
وَالْحَمـْـدُ لِلّٰهِ الْكَرِيــمِ الرَّازِقِ الْ   خَلَّاقِ مُتْقِنِ صَنْعَةِ الْإِنْسَانِ

وصلاة وسلاما على أشرف خلقه وسيد رسله وخاتم أنبيائه محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين رضوان الله عنهم أجمعين.

وبعد: فهذا بعض ما جادت به القريحة، وجرى به اليراع، وسطرته الأنامل، عن مشاعر انتابتني وخواطر طاردتني.

دعني أتقحّم الموضوع بلا تريث وتقديم فوق ما ذكرته في الفقرة السالفة، كما تعلم -ولست تعلم- لي في القرآن بعض المشاركات وأوليه بعض الاهتمام، وأشد ما يؤسفني ويحز في نفسي أنني لم أوفه حقه وأعطه قدره، وإن قلت لي: هذا دأب أهل العصر إلا من رحم الله. فإني أقول أن الإنسان ينبغي أن يكون همه خاصة نفسه، وليس له في الآخرين دليل -موزونةٌ الكليمات الأخيرة، أليس كذلك🤔؟!

وقد كنت أظن، أو لنقل يخطر على خاطري -وهذا من فعل الشيطان وتزيين النفس قاتلهما الله- أنني بذلت شيئا في هذا المجال، وأديت بعض حقه، خاصة حين أرى من يزيد حفظي على حفظهم، وينبو استحضاري عن استحضارهم، إلا أنني وحين يثوب إليّ رشدي، ويزول مس طائف الشيطان، أرجع إلى نفسي مذكرا إياها بما علمته من آداب أهل القرآن، وحقه وقدره وأنه إن كان الأعلام ممن لا أساوي قلامة ظفرهم يقولون عند موتهم ما معناه “إن أشد ما آسف عليه أنني لم أعط القرآن استطاعتي” وإن لم أخطئ فهذا قول الإمام العلم الحبر البحر من به استشهد العلماء قاطبة -حتى في عصرنا كبريات المؤسسات والجامعات الإسلامية والاستشراقية حتى، يشكل هذا الإمام لديهم وزنا وأي وزن- ابن تيمية رحمه الله، فإن كان هذا حاله فكيف حالي؟!.

وليس هذا مصورا عليه، فما من عالم إلا وهو يدري ذلك ويعلم به، ولن يوفي مخلوق حق العلم والدين عموما فضلا عن القرآن

جمع العلوم دقيقها وجليلها     فبه يصول العالم الرباني

وقد ورد عن السلف أن القرآن أصل العلوم، ومن أوتي القرآن فقد أوتي خيرا كثيرا، وما العلوم إلا منه نابعة، فيه تفصيل كل شيء، وبه تحصيل كل غاية شريفة.

ومما يحضرني قصة عن أحد العلماء والدعاة، حين تصدى له بعض السائلين المتعنتين فقال: أليس قرآنكم قد ورد فيه (تبيانا لكل شيء) (تفصيل كل شيء) وغير ذلك من الآيات التي تدل على أنه جماع العلوم؟!، فأخبرني إذن عن هذا الكيس -مشيرا إلى كيس دقيق لدى خباز- كم ينتج من الخبز؟! وأين هذا في القرآن، فابتسم العالم وقال: اسأل الخباز، فإن الله تعالى يقول: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).

وانتبه إلى أن هذه القصة بالمعنى، ولست ملتزما بالمطابقة، وإنما الغرض والمقصود الفائدة لا النقل.

واعلم أن الموضوع يطول، وإن طفقت أذكر الأدلة والشواهد وفضل القرآن فلا تطمح في أن أنهي هذه المقالة، فإن السياق طويل، والوقت قليل، ولو شرعت في ذلك إلى حين انقضاء أجلي ما وفيت الأمر حقه، ولا بلغته قدره.

لذا، ورجوعا إلى ما شرعت فيه من ذكر ما وقع لي من الأمور، أريد أن استأنف فأقول: لقد كان لي في شأن القرآن مشاركات في مسابقات عديدة، أغلبها محلية في مصر، وأحرزت بحمد الله مراكزَ متفاوتةً، متحصلا على الأول غير مرة، ومنزلقا عنه غير مرة أيضا، ثم شاركت في بعض المسابقات العالمية، وقد كان هذا من فضل الله، فإن المسابقات مع خطورتها النفسية، لا سيما إن فزت فيها، لها أثر طيب في إيقاد نار همم خبا ضوؤها، لا سيما حين ترى مجتهدا فتذكر أن عليك بذل المزيد، كما أن فيه تعضيدا وسلوانا، حين ترى أنك لست الوحيد في الميدان، وتدرك معنى قوله تعالى:

(فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) 

وقوله تعالى:

(وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)

وقوله تعالى:

(يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه......) 

إلى آخر قوله تعالى.

والآيات في ذاك عديدة، متفاوتة الدلالة، إلا أنها تصب في معنى واحد هو مرادي.

وبعد كل ما مضى، أريد أن أقول أنني كنت احتقر نفسي مرات عديدة، كلما قرأت سيرة أو شاهدتها بعيني، لا سيما في مجال حقيقة العلم وهو العمل، هو الغرض والفائدة، وبدونه فأنت حمار يحمل أسفارا، ولَلجهل خير لك، فإنه يصير دليلا عليك، ويوم القيامة يكون عليك شهيدا.

وفي الحديث: (والقرآن حجة لك أو عليك)

وما أجمل ما قال أبو إسحاق الإلبيري الأندلسي -إن للأندلس شجونا في نفسي، ما مرت على خاطري إلا وكمدتني- في منظومته الرائعة التي أعدها من أفضل المنظومات قاطبة لحسن معانيها وطيب مبانيها وفضل غرضها وجودة سبكها، أعتذر! ليس لهذه الدرجة لكن مقصودي أنها وإن لم تبلغ شأو المعلقات في اللغة، إلا أن المعلقات لا تعدل بها عندي شيئا، وهذا يدل على أهمية المعنى أولا، ولكن في باب التذوق اللغوي والنشوة التي تحوزها بإمرار قصيدة قوية في اللغة ضاربة بجذورها فيها تكون في المعلقات ونحوها أكثر، لكن المعاني السامية والمرامي العلية في الإلبيرية أكثر ولا شك.

إذا ما لم يفدك العلم خيرا...فخير منه أن لو قد جهلتا
وإن ألقاك فهمـك في مهـاو...فليتـك ثم ليتك مـا فهمتـا

والبيت الأول هو المقصود، وما الثاني إلا استدراك أضفته لذكر بعض أوجه صيرورة العلم عليك لا لك.

فهذا بعض ما أردت قوله، وقد كنت أطلع على أمثلة عديدة، للصغار وللكبار، للنجباء وغير النجباء، أو من كانوا كذلك قبل حفظهم القرآن، فلما حفظوه نجبوا وأي نجب، فليس حافظ القرآن ببليد، لا سيما إن عمل بمقتضاه.

إلا أنني كنت أرغب دائما في أمثلة معاصرة، لما لذلك من حسن الأثر في النفس، وزيادة مقصود الاعتبار بالقصص، لأنني -وغيري مثلي- أقول عن أولئك الصالحين في العصور والأزمنة الطيبة الخالية: وأين أنا منهم وأين هم مني، عصري غير عصرهم، وحالي غير حالهم، وقد طبقت الفتن أرجاء الأرض الآن، وغزت عقر الديار، ولم يخل من عظائمها بيت.

وقد أقرني على هذا كل عاقل، لذا، فقد تخصصت كتب في ذلك، وذكروا أن مقصودهم في ذلك الاقتصار هو ما يتواتر على الأذهان من تلك التعللات والأعذار.

ومن الكتب التي كان ذاك غرضها، وقد تعرفت عليه منذ زمن، كتاب “شذا الياسمين من أخبار وقصص المعاصرين” في القرآن وقيام الليل، هذا عنوانه أو قريب منه إن لم تخني الذاكرة، المنصوص عليه أنا منه متأكد إن شاء الله.

وهذا الكتاب للدكتور عبد الله بن زعل العنزي إن لم تخني الذاكرة أيضا.

قد تسأل وقد تملكك العجب: وما يمنعك من الرجوع إلى الكتاب وتأكيد معلوماتك؟!، فأخبرك بابتسامة أسيفة أن ذاك من ظواهر ذلك الأمر الجلل الذي يعكر علي كتاباتي وصفوها “الملل والعجلة” وقد تكلمت عن ذلك في الصفحة التي ما زالت مسودة طويلة للغاية، أنشرها بإذن الله حين أكملها أو أجد أنها قد استوفت بعض المقصود، صفحة “عني وعن المدونة”، ولو لاحظت لعلمت أنه كان من الأيسر علي الرجوع إلى الكتاب بدلا من تضييع الوقت في كتابة هذه الفقرة، فذاك خير لي ولكم،✋🏻وقفة، لقد فكرت في ذلك وبالفعل سأذهب الآن وأراجع الكتاب إن شاء الله.

الحمد لله، لقد خرجت من المحرر وراجعت الكتاب، والحمد لله أن عنوان المستند كان نفس عنوان الكتاب، فلم يستغرق مني الأمر إلا ضغطات بسيطة حيث كتبت “شذا” فظهر الكتاب مباشرة، وعنوانه بالفعل “شذا الياسمين من أخبار المعاصرين في قراءة القرآن الكريم وقيام الليل” للدكتور عبد الله بن زعل العنزي، من نشر دار الأوراق الثقافية، وهو متوفر على الشبكة العنكبوتية مجانا لمن أراد.

وقد ألفيت فيه قصصا رائعة، إلا أنها لم يكن لها أثر كبير كما كان لما سأورده عليكم بعد قليل، ومن الأسباب أنه وكما ذكر المؤلف قد ذكر قصصا كثيرة لمن هم في القرن الرابع عشر الهجري، أي قبل مائة سنة، وكثير منهم كان في عصر ما قبل التكنولوجيا والفتن الأبرز -حوالي عشرين سنة من الآن فقط في الواقع- كما أن كثيرا منهم كان من أهل البادية، أي أنهم لا يختلفون كثير اختلاف عمن سبقهم من السلف أصلا نظريا، كذلك كان لكثير منهم بيئة مساعدة إلى غير ذلك.

والقصص التي ذكرها لهم كانت بعد تقدم كثير منهم في السن بل وفي القدر من العلم والدين، لذا فالبون يبدو بعيدا ولا تبدو وثيقة الصلة بنا في عصرنا.

لكنني رأيت قصصا مناسبة في بعض الكتب الأخرى كثلاثية الشيخ سعيد أبي العلا حمزة، وهذا اسمه إن أسعفتني الذاكرة، وهذا لا يمكنني التأكد منه للأسف، لأن الكتب الورقية ليست معي الآن بل هي في بيتي، والإنترنت لست له بمشغل الآن، لكن هذا اسمه عموما، وبما يتقدم أو يتأخر اسم عن اسم فقط، أما ثلاثيته فهي (الحصون الخمسة) (الجبال الرواسي) (رسوخ)، لدي شك بسيط في اسم الكتاب الأول، والكتب الثالثة هذه لمراحل متدرجة في حفظ القرآن، وهي مفيدة جدا معنويا وعمليا، وأنصح بها وأحبذ قراءتها لكل من سلك طريق القرآن أو أراده.

ولعلي بإذن الله أفرد مقالة عن هذه الثلاثية، وأزيد عليها كتبا أخرى مفيدة جمعا للمصادر وزيادة لاستفادة القارئ.

المهم أنني مؤخرا منذ يومين فقط رأيت أمثلة رائعة كان لها أبلغ الأثر في نفسي، في كتاب مفيد جدا معنون ب “المئة المانحة لإتقانه للفاتحة” للشيخ عادل الجندي جزاه الله خيرا، ودعوني أطلعكم على بعضها قدر المستطاع.

وقد نقلتها لكم نصا منذ بداية الباب حتى نهايته كاملة، كما كتبها المؤلف بالنص.

“نماذج مُشرِّفة لحَفَظَةِ القُرآن الكريم

مما يشحذُ الهمة، ويُحفز على الحفظ، النظر في أخبار حَفَظَة وقرَّاء القرآن الكريم، أنصحك بذلك كلما شعرت من نفسك مللاً أو كسلاً أو فتوراً، ومما أنصحك به في هذا الصدد كتاب “شذا الياسمين من أخبار المعاصرين في القرآن الكريم وقيام الليل” للشيخ عبد الله بن زعل العنزي، وهو متوفر على العنكبوتية، صدَّر كتابه بالحديث عن فضل القرآن الكريم، وقراءته، وأهله، والأمر بتعاهده، والأسباب المعينة على قراءته، ثم شَحن كتابه بطائفة كبيرة من المعاصرين، الذين لهم حال يُحسدون عليه مع القرآن الكريم حفظاً وتلاوةً.
والآن أذكر لك بعض النماذج لتكون عوناً لك على شحذ همتك، ودفعك نحو القرآن الكريم وحفظه بأقصى ما تستطيع وتقدر عليه، لكني لن أذكر لك نماذج من الصحابة فتقول لي: هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين نحن منهم!
ولن أذكر لك نماذج من السلف فتقول لي: زمانهم غير زماننا، ومُغريات زماننا أضعاف مغريات زمانهم!
ولن أذكر لك نماذج من العلماء وطلبة العلم المعاصرين فتقول لي: هؤلاء نذروا حياتهم كلها للعلم والقرآن، لكن نحن عوام، لنا أعباء أخرى كثيرة في حياتنا فوق ذلك.
أنا سأذكر لك نماذج مختلفة لأناس مثلك تماماً، في مثل ظروفك وربما ظروف حياتهم أعقد منك بمراحل، كلهم عرفته، وحادثتُه، بل واختبرته؛ ذلك أن جميعهم من المشتركين في دورة “حفظ القرآن الكريم عبر الهاتف” التي يُشرف عليها الفقير، بعضهم ملتحقٌ بالدورة منذ أشهر، وبعضهم ملتحق بها منذ أعوام، والحاصل أن جميعهم مثلك تماماً، من نفس زمانك ومجتمعك وربما بيئتك، بعضهم في مثل سِنك، وبعضهم يكبرك، وبعضهم أكبر منك، فإن كان يُغريك الهاتف والإنترنت فهو يُغريهم أيضا، وإن كان لك أسرة تقوم عليها وتعولها فهم أيضا لهم، وإن كان يشغلك غير ذلك فهو يشغلهم أيضا، ورغم ذلك لم يتذرَّعوا بشيء من ذلك كله وانصرفوا إلى القرآن الكريم بقدر طاقتهم وما يقدرون عليه، وإليك بيان ذلك.
*****
1ـ من النماذج الرائعة والمشرفة معي في دورة “حفظ القرآن الكريم عبر الهاتف”الدكتورأحمد أبوشادي، الدكتور أحمد طبيب صيدلي، وهو من أقدم المشتركين معي في دورة حفظ القرآن الكريم عبر الهاتف، الأعذار عن الحفظ أمامه كثيرة بحيث لو أراد عذراً لن يتعب في البحث عنه، فهو أولا سنه فوق الثلاثين، وثانياً مُغترب، وثالثاً متزوج، ورابعاً أب، ويجد صعوبة في الحفظ لهذه الأسباب وغيرها، وفوق جميع ما سبق فهو يقرأ عليَّ مرتين فقط في الشهر، وربما قرأ في شهر كامل مرة واحدة.
ولكن.. ورغم جميع هذه المثبطات، ومع كل هذه المعوقات فهو ملتزم بالحفظ وإن كان يسيراً، متعهد للمراجعة لا يوقفها مهما كانت الظروف، مُعظم لشيخه الذي هو أنا رغم أنه يكبرني سناً ومكانة وقدراً.
اختبرته عدة مرات في محفوظه عليَّ (عشرة أجزاء) بناء على رغبته، ورغم حفظه القوي، بل القوي جداً فهو غير واثق فيه. قلت له سأجعل أحد أحفظ أبناء بلدتنا هو من يقوم باختبارك المرة القادمة.. وبالفعل كلمت الشيخ ربيع، تلميذي وابن خالتي وصديقي أيضاً وطلبت منه أن يختبره في غير حضوري ويخبرني بالنتيجة، وربيع لديه أسئلة تعجيزية لا حصر لها، وقد طلبت أنا شخصيًّا منه أن يختبرني غير مرة، وكانت بعض أسئلته تجعلني أدور حول نفسي.الشاهد: اتصلتُ بربيع بعد الاختبار أسأله ماذا فعل الدكتور أحمد في الاختبار؟ فقال لي: ما كنت أظن أن أحداً يحفظ القرآن بهذا الشكل، كأنه كمبيوتر، حتى المتشابهات لم يُخطئ في كلمة واحدة فيها كلها، ولم أَرُدَّهُ في كلمة أو حرف من أول الاختبار إلى نهايته، حقيقة أذهلني. كذا قال لي بالحرف. هذا نموذج أقدمه لكم تعاملتُ معه عشرات المرات، لديه عوائق كثيرة، سنه ليس بالصغير، مقدار حفظه غير كبير، ويُسمع مرتين فقط في الشهر، ورغم ذلك أنجز ما قد قرأتموه.. عشرة أجزاء لا يخطئ في حرف واحد فيهم، فقط باستمراره، بل هو الآن ـ حتى لحظة كتابتي هذا الكتاب ـ يحفظ قريباً من نصف القرآن الكريم، وقد اختبرته في محفوظه مرات ومرات، ودائما نتائجه مشرفة.

2ـ من النماذج الرائعة معي أيضاً في دورة “حفظ القرآن الكريم عبر الهاتف” المهندسة عائشة: ما شاء الله عليها، لم تتخلف عن التسميع يوماً قط منذ بدأنا اللهم إلا مرة واحدة فقط ولعذر قاهر، مواعيدها مضبوطة بالثانية، فلا تتقدم عن الموعد دقيقة ولا تتأخر عنه دقيقة. ما شاء الله عليها تُسمِّع في المرة الواحدة 12 ربعًا (جزء ونصف) بواقع مرتين في كل أسبوع، أي ستة أجزاء شهريّاً.
ورغم أنها تخرجت في كلية الهندسة وعلى مشارف الالتحاق بكلية دار العلوم، وكونها زوجة، وكونها حامل في الشهر الثامن، وكونها طالبة علم ولها أعباء أخرى فوق ما ذكرت، إلا أنها ملتزمة بالحفظ والضبط والمراجعة، وكانت درجة ضبطها في كل الاختبارات التي أجريت لها 100% وقد قرأت عليَّ كامل القرآن الكريم بحمد الله تعالى من الفاتحة إلى الناس. حقيقة هي نموذج يُحتذى به، يكشف ويُعرّي كل من يدّعون أنهم لا يمتلكون وقتاً لحفظ أو مراجعة القرآن الكريم. لأن الوقت موجود، غير الموجود هو العزيمة والجدّية ولا شيء آخر!

3ـ من المجتهدات أيضًا معي في دورة “حفظ القرآن الكريم عبر الهاتف” الدكتورة رحاب ربيع، الدكتورة رحاب متخرجة حديثاً في كلية الصيدلة، لاحظتُ أنها لا تكاد تُخطئ في حرف أو تشكيلةٍ في أثناء تسميعها عليّ لمتن المقدمة الجزرية، رغم أنها تُسمّع أبياتاً غير قليلة منها في كل مرة، والذي أعرفه أنها تحفظها لأول مرة في حياتها، ولما سألتها عن طريقة حفظها قالت لي ما نصه:
أقوم بحفظ البيت الواحد، ثم أكرره أربعين مرة، ثم أحفظ الذي يليه، ثم أكرره أربعين مرة، ثم أكرره هو والبيت الأول معاً أربعين مرة، ثم أحفظ البيت الثالث، ثم أكرره أربعين مرة، ثم أضمه إلى البيت الأول والثاني فأكررهم معاً جميعاً أربعين مرة، وهكذا حتى أصل إلى البيت الأخير الذي أود حفظه. سألتها مُتعجِّباً مُعجَباً من إصرارها وإرادتها التي لم ينل منها الملل شأن الكثيرين: فكيف تحفظين وِردك من القرآن؟
قالت: بنفس الطريقة، أحفظ الآية جيداً، ثم أكررها أربعين مرة، ثم أحفظ التي تليها، ثم أكررها أربعين مرة، ثم أضمها إلى الأولى وأكررهما معاً أربعين مرة، ثم أحفظ الآية الثالثة، ثم أكررها أربعين مرة، ثم أكررها مع الآية الأولى والثانية أربعين مرة، وهكذا حتى أصل إلى آخر آية في الورد الذي أود حفظه، علماً بأن وردها في بعض الأيام يتجاوزالخمسة أوجه!
فتخيل حجم المجهود الذي تبذله، وعدد مرات التكرار!
حقيقة أعظمتها وأكبرتها في نفسي؛ ذلك أنني أعلم أن التحدي بالنسبة لها لَم يكن فقط في التغلب على الملل الذي ينشأ من كثرة التكرار، وإنما لأني أعلم أيضاً أنها مُلتزمة خارج الحفظ بأعباء كثيرة، كعملها طبيبة صيدلانية، ومذاكرتها الجانبية حرصاً على تطوير نفسها أكثر بعد تخرجها، فضلًا عن التزاماتها داخل بيتها، فلله درها، قلت لها عقب ما سمعته منها: إنك لو مضيتِ على هذه الطريقة حتى نهاية القرآن مع التزامك بالمراجعة للمحفوظ القديم ستختمين ختمة قوية يُصبح القرآن بعدها منقوشاً في صدرك.

4ـ ومن المجتهدين معي أيضاً في دورة “حفظ القرآن الكريم عبر الهاتف” الشيخ تامر طه، الشيخ تامر في مسابقة تنافسية بين المشتركين في الدورة في سورة البقرة حصل في الاختبار الخاص بها على مجموع 100% علماً بأنه الوحيد الذي حصل على هذه الدرجة، العجيب أنه كان يُجيب بشكل مذهل وسريع، سواء حين يَسرد، أو حين يُجيب على المتشابهات، أو حين ينسب الآيات لأرباعها التي وردت فيها، وسأترك نهاية الكتاب بعض نماذج الاختبارات والمسابقات لسورة البقرة؛ لتعلم أن المسابقة لم تكُن سهلة، بل أكثر منافسيه أصلاً كانوا من حفظة القرآن الكريم كاملاً، وكان منهم أئمة مساجد، ورغم ذلك تفوق عليهم جميعاً، بل لم أصوب له كلمة واحدة في كافة الاختبار، ولما سألته عن ذلك قال لي: والله يا شيخ من عِشاء البارحة وحتى لحظة الاختبار ـ أكثر من عشر ساعات ـ لم أترك المصحف من يدي، أراجع، وأضبط المتشابهات، وأسرد على زوجتي.
ومن الجدير بالذكر أنه في الشهر التالي دخل معي مسابقة سور: (البقرة ـ آل عمران ـ النساء ـ المائدة ـ الأنعام)، وحصل أيضا على مجموع 100% عن جدارة واستحقاق، فلله أبوه، كما أنه في جميع الاختبارات والمسابقات التي خاضها معي ـ حتى لحظة كتابة هذا الكتاب ـ على ما بها من أسئلة يراها البعض تعجيزية ـ وليست كذلك ـ كانت نتيجته فيهم جميعا 1
00%سألته متى تراجع وتتجهز للاختبار؟ قال: يوم أنجح معك في اختبار يا شيخ فإني في اليوم الذي يليه أبدأ في التجهز بالمراجعة والحفظ للاختبار التالي. لله دره، بهذه النفسية وذلكم الإصرار يُنال الحفظ.
ومما يَجدرُ ذكره هنا أنه ـ ما شاء الله عليه ـ منذ أيام قليلة قام بتلاوة القرآن الكريم كاملاً من الفاتحة إلى الناس، في يوم واحد، ليس هذا هو الإنجاز، فكثيرون يفعلون ذلك؛ لكن الإنجاز أنه فعل ذلك أثناء سفره من القاهرة إلى الإسكندرية ذهابا وإيابا، فقرأ في الذهاب سبعة عشر جزءا، وفي الإياب ثلاثة عشر جزءا، وتناقلتْ بعض المواقع الخبر تحفيزا للشباب على مثل صنيعه، وكذا العديد من وسائل التواصل الاجتماعي، وكان من أدبه وتواضعه أن أرسل لي يخبرني أن العبد الفقير ودورة “حفظ القرآن الكريم عبر الهاتف” التي يُشرف عليها كان لها الدور الأكبر في هذا الإنجاز، وتوطيد صلته بالقرآن الكريم، قلت له: بل هو فضل الله أولا، ثم اجتهادك. وهذا حقٌّ وصدقٌ، بارك الله فيه، وأدام عليه نعمة القرآن الكريم، والتعلق به، والعكوف عليه تلاوةً وحفظاً ومراجعةً وتعلماً وعملاً.

5ـ ومن المشتركات معي في دورة “حفظ القرآن الكريم عبر الهاتف” المجتهدات جدا الآنسة ولاء فرحات، ولاء طالبة في كلية اللغات والترجمة، في أقل من عشرة أيام من التحاقها بالدورة كانت قد انتهت من تسميع أكثر من ربع القرآن عليّ، ليس تسميعاً عابراً، ولكن تسميعاً قوياً في غاية الإتقان، تم اختبار ولاء في جميع ما سمّعته عليّ خلال العشرة أيام (أكثر من ربع القرآن) اختباراً عسيراً، كله من أوله إلى آخره في المتشابهات، بعض الأسئلة كانت متشابهة مع خمسة مواضع مثلاً كقوله تعالى: “مُصدقًا لما بين يديه” فأتت تقريباً بجميع المواضع. أقول لها: “قلوبنا غلف” فتأتي بجميع المواضع وتكمل بعدها. وعلى هذا فقِس، ما شاء الله، ولا خطأ واحد في كامل الاختبار، فكانت نتيجة اختبارها 100% مستحقة للجائزة كما هو مقرر لمن يبلغ درجة 100% في أي اختبار، فاختارت أن تكون جائزتها عبارة عن شهادة مكتوبة مني تفيد حفظها لجميع ما سمّعته علي. قلت لها نهاية الاختبار: والله حاولتُ تعجيزك حتى لا تحصلي على العلامة الكاملة فأعجزتني أنتِ!

6ـ أيضًا من المشتركات المجتهدات معي في دورة “حفظ القرآن الكريم هاتفيًّا”الدكتورة سلوى عبد الباسط، الدكتورة سلوى طالبة في السنة الأخيرة في كلية طب الأسنان، وقد حصلت في آخر اختبار لها على درجة 100% فاختارتْ أن تكون جائزتها يوم تسميع إضافي، فقلت لها: اتصلي يوم الجمعة وسمِّعي.
اتصلت فعليا، وبعد أن بدأت التسميع بقليل قلت لها لأنهي المكالمة سريعاً لأني كنت مشغولاً: ستتوقفين مع أول خطأ تقعين فيه. فسمّعت ساعة كاملة.. ساعة كاملة حدراً ـ قراءة سريعة ـ لم تُخطئ في حرف واحد في التسميع حتى تعبتُ أنا فقلت لها: يكفي. قالت: لم أخطئ يا شيخ. قلتُ نعم ولكني مشغول. فأنهينا التسميع على أن يكون لها عندي خطأ في تسميع جائزتها القادم، فلله درها.

7ـ الأستاذ ربيع كامل.. الأستاذ ربيع كان معي في الشركة التي أعمل بها، وهو أصلا ـ بقدر الله ـ من بلدتنا، ورغم ذلك فأول مرة أراه فيها في حياتي كانت في الشركة، وسبب ذلك أنه ظلَّ زماناً طويلاً يعمل خارج مصر، ولما عاد إلى مصر كان يعمل في القاهرة، والشاهد أننا تصاحبنا بشكل كبير، وقويت علاقتنا وتطورت في فترة وجيزة، وعرفتُ عنه الكثير، وأدركتُ أن في حياته الكثير والكثير من المآسي والصدمات التي كنت أشفق عليه منها.. إلى أن بدأ يحفظ عليَّ القرآن الكريم، واشترط عليَّ أن أنسى في مسألة حفظه عليَّ كونه أكبر مني بقرابة العشرين عاما، وكونه أصلا مديري المباشر في العمل، وأن أتعامل معه كأقل طالب عندي ـ وليس في طلبتي قليل ـ وبالفعل بدأنا، وقطع معي شوطاً، وكان مواظباً على الحفظ والمراجعة بشكل مثالي، إلى أن جاءني يوماً في موعد التسميع ليعترف بأنه لم يحفظ شيئاً، وكان حزيناً آسفاً، ثم قام فجأة بخلع حذائه ومناولتي إياه، هكذا فعل والله.
سألته مندهشا ما هذا؟! قال: لتضربني به جزاء تقصيري، فإني أستحق ذلك وأكثر منه. قلت معاذ الله. ولكني في نفسي أكبرته وأعظمته، وعرفت أنه لم يَهمَّ بذلك الفعل إلا لنية عظيمة داخله مُنعقدة على حفظ القرآن الكريم، وتعظيم كبير في نفسه لشيخه وإن كان يصغره بقرابة العشرين عاماً، وإن كان مديراً له في العمل.

8ـ وهذه الآنسة أميرة أشرف،حدث وعاقبتُها مرة بالحرمان من التسميع مدة أسبوع كامل لمُخالفةٍ وقعت فيها، وكانت حينها في الثانوية العامة، فاعتذرتْ اعتذاراً شديداً، ثم راسلتني وهي باكية:
“بالله عليك لا تقطعني عن القرآن فأنا في أمس الحاجة إليه”
لامستْ جملتها شغاف قلبي، “بالله عليك لا تقطعني عن القرآن فأنا في أمس الحاجة إليه” فاستحييتُ من الله أن أكون سبب قطعها عنه. فألغيتُ قراري، ثم أسقطتُ عنها الاشتراك الذي تدفعه على أن تشتري بقيمته هديةً لنفسها.
مثلُها حقُّه أنْ يُكرمَ لا أنْ يُعاقب.

9ـ وهذه الآنسة حنان عبد الله، للمرة الثالثة على التوالي تحصل على النتيجة النهائية 100% أي أنها أجابت على خمسة عشر سؤالاً أكثر من نصفهم في المتشابهات، وفيهم أسئلة سرد، يعني تُسمِّع في السؤال الواحد بالصفحات. ومع ذلك لم أصوب لها كلمة واحدة فيهم جميعا. اللهم بارك.
سألتها عقب اختبارها الأخير مُندهشا من متانة حفظها: كيف تراجعين؟
قالت: يوميا بلا استثناء أراجع من ساعة إلى ساعة ونصف، مع التركيز على المتشابهات، ويوم الاختبار أراجع من الفجر حتى موعد اختباري. (حوالي أربع ساعات). قلت: هكذا الجدية في الحفظ والمراجعة وإلا فلا.
عرفتُ بعد ذلك أن والدتها وافتها المنية قبل التحاقها بالدورة بأقل من شهر واحد، فقررتْ الالتحاق بالدورة وحفظ القرآن الكريم وتعهده بالمراجعة؛ ليكون في موازين حسناتها، فنعم الأم التي ربَّت، ونعم البنت التي برَّتْ.

10ـ  وهذه الأستاذة حنان العشماوي، وأكتفي بما نشرتُه عنها على صفحتي على الفيس بوك يوم اختباري لها في إحدى مسابقات الدورة وهذا نَصه:
(الحاصلة على المركز الأول في دورة “حفظ القرآن الكريم عبر الهاتف” المستوى الأول (اختبار سورة البقرة) من مواليد السبعينات، أجابت على اختبار كثير ممن سألتهم فيه من المشتركين في الدورة وفي المسابقة ككل كان تعليقهم: يا شيخ هذا اختبار تعجيزي.. أنت لا تُريد أن ينجح أحد؟!
أمنا الفاضلة أجابت عليه كاملاً بدون خطأ واحد بسلاسة وانسيابية شديدة، تقول لي: هذه الآية في صفحة كذا، في آخر صفحة فيها، والآية التي تُقابلها مُباشرةً في الصفحة الأخرى هي آية كذا. تَخيل أني أسألها بالكلمة.. يعني: أكملي من قوله تعالى: (وأضع كلمة واحدة). وتجيب.
أسألها في نهاية آيات، يعني أكملي مثلا من قوله تعالى:”أن الله سميع بصير” إلى قوله تعالى “إن الله سميع بصير” فتجيب.
صُدِمت من أجوبتها، تعرفون لماذا؟ لأني في أول الاتصال قبل أن أشرع في الأسئلة قلت لها: حتى لا يكونَ في الأمر ضغط عليكِ أو حرج لن أضع اسمك في فريق البنات. (المسابقة عبارة عن 13 فتاة ضد 13 شابا) حتى لا تأتين بدرجة مُتدنية فتُحرجي أمامهم إن نشرتُ اسمك، ويُعلقون عليك سبب الخسارة إن حدث وخسروا. ما أغلظني.. كيف أصلا قلت لها هذا، هذا حرج أشد. كأني أقول لها: لا تحاولي، أنت راسبة لا محالةة.
فماذا كان ردها عليَّ؟ قالت لي: الذي تراه يا شيخ!
رأيتم الأدب؟ رغم أنها تكبرني سناً وفضلاً.
وبدأ الاختبار فكانت الصدمة. كمبيوتر. قلت لها: كيف بلغت هذا المستوى؟ قالت: إنني أحب سورة البقرة حباً لا تتصوره، مُرتبطة بها، ولو رأيت مُصحفي لعرفت حجم الجهد المبذول منذ زمان لضبطها، وإنني لا أتمنى إلا أن ألقى الله تعالى بهذا الجهد المبذول فيها.
ألستُ شيخكم الذي تُسمِّعون عليه؟ ألستُ واضع الاختبار؟ والله إنها حافظة لما اختبرتها فيه أفضل من حفظي أنا له. أعلن حصولها على المركز الأول، كما وعلى العام أعتذر من مطلع مكالمتي معها الذي فحواه أني لن أضعها في قائمة فريق البنات حتى لاتتسبب في رسوبهن بدرجة متدنية تحصل عليها، كما أعلن ضمها لقائمة فريق البنات، وتصدرها للفريق، كما أعلن استحقاقها لجائزة المركز الأول (كتبا بقيمة 250 جنيهاً).
والمفارقة أن أمنا التي خشيتُ أن تتسبب في إسقاط فريق البنات هي الوحيدة التي حصلت فيهن على الدرجة النهائية 100% فقولوا ما شاء الله). انتهى.

11ـ وهذه الأستاذة زينب صلاح، عرضتُ عليها أن تأخذ أجازةً أسبوعاً واحداً من الدورة ومن التسميع بسبب قُرب زواجها، وقلت لها بنبرة جادة حازمة: لن أسمح لك بأكثر من أسبوع. قلتُ لها ذلك مخافة أن تطمع في أكثر من ذلك، فصدمتني بقولها: ولماذا أسبوع يا شيخ؟ لن آخذ ولا يوماً واحداً، حتى ليلة زفافي اتفقتُ مع زوجي على أن أُسمع فيها وشجَّعني على ذلك ولم يعترض، وقد كان، والله كان تسميعها قُبيل زواجها بأقل من 48 ساعة فما تغيبتْ، ثم كان تسميعها الذي يليه في اليوم التالي لزواجها مباشرة، فما تغيبت. فأعظمتها في نظري، وجدير بمثلها أن يُعظَّم، سيِّما إذا علمتَ أن شقيقتها التي تكبرها هي الأخرى من المشتركات في الدورة، وتغيبتْ بسبب الزفاف، بينما شقيقتها نفسها التي هي العروس أصلاً لم تتغيب!

12ـ وهذه الآنسة آلاء رفعت، راسلتني بـ “ريكورد” صوتي أثَّر فيَّ تأثيراً كبيراً، حتى أني سمعته مرات، ومن ثَم قررتُ إدراجها هنا لتكون ضمن النماذج الجديرة بأن يُحتذى بها، وأن يتخذها الراغبُ في حفظ القرآن الكريم قدوةً و أسوة، وهي والله بهذا جديرة.
وخلاصة رسالتها كانت كما يلي:
“أستاذ عادل، أنا أعتذر منك اعتذاراً شديداً على أني أُسمع مقاطع صغيرة جدا، سواء من القرآن الكريم، أو من متون التجويد، أنت تمنحنا 15 دقيقة للتسميع في المرة الواحدة، وأنا لحفظي البطيء والصغير، بل متناهي الصغر، لا أُسَمِّع أكثر من دقيقتين أو ثلاث دقائق على الأكثر.
أنا لا أريد أن أنقطع عن الحفظ، لا تعرف عدد محاولاتي لحفظ القرآن الكريم، من كثرة محاولاتي لم أعد أحصيها ولا أقدر على إحصائها أصلا، إنني أفعل ذلك منذ كنت في الصف الأول الابتدائي، ولم أفلح قط، ولا أعرف أحداً في جميع المحيطين بي حاول مثلما حاولت، لكن إمكاناتي في الحفظ متواضعة، أرى معك نماذج ما شاء الله عليها، بالنسبة لي خُرافية، وحلمي أن أكون يوماً مثلهم، أرجوك لا تمل مني لأني لستُ مثلهم، واصبر عليّ، رجائي فقط أن تصبر علي وألا تملَّ مني لبطئي، أنا حاولتُ حفظ القرآن كثيرا، وأحاول، وسأظل أفعل حتى أموت، وأملي ألا أُضَيّعَ الفرصة هذه المرة مع حضرتك””
انتهت رسالتها.
هذه البنت بما سمعته منها لا تقل عن النماذج المُشرفة التي تحدثتُ عنها في هذا الكتاب أو خارجه، بل لعلها من أفضل ثلاثة أشخاص مروا عليَّ في تاريخي كمعلم للقرآن الكريم، والغريب أنها تظن نفسها العكس تماماً، وتحسب أني قد أُقصيها من الدورة لعدم إنجازها ـ من حيث الكم ـ ولا تعلم أن أمثالها يُعطونني حافزاً كبيراً ـ ويُعطون غيري بالتأكيد ـ على مزيد من المراجعة والإتقان لكتاب الله تعالى، فأنعم والله بها من بنت، ولي رجاء من حضراتكم، وكل من تبلغه هذه السطور، الدعاء لها بأن يَمن الله تعالى عليها بحفظ كتابه، وأن يقر عينها بذلك.

13ـ وأختم هذه النماذج بالحديث عن عادل الجندي، لا باعتباره نموذجاً يصلح للاقتداء به، فهو والله أقل من ذلك، وإنما لأني ألزمتُ نفسي من البداية أن تكون المصادر التي أعتمدُ عليها في كتابة هذه الرسالة هي خبرتي العملية المتواضعة، وأرى أنه من الغش للقارئ حينها ألا أذكر قصتي مع حفظ القرآن الكريم، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
حتى دخولي الصف الأول الثانوي لم أكن حافظاً للقرآن الكريم ولا لنصفه ولا حتى لربعه، بل أذكر أني مرة دخلت مُسابقة كبيرة تابعة لوزارة الأوقاف المصرية في 18 جزءاً من القرآن الكريم وأنا في أول المرحلة الإعدادية، وقد أجبرني الشيخ على دخولها لمجرد أني أنهيتهم حفظاً في الأزهر الشريف ـ كذا يُفترض يعني ـ ومن فرط ما رآني الشيخ الذي يختبرُني بليداً عَيياً لا أحفظُ شيئاً ولا أُجيب على شيءٍ قال لي: طيب سَمِّع لي حتى سورة “قل هو الله أحد!” وكان هذا السؤال اليتيم هو أول وآخر ما أجبتُ عليه في تلك المسابقة!
كانت لي عدة محاولات فاشلة في الحفظ قبل ذلك الحدث وبعده، لم أكن أفشل لضعف في الذاكرة أو ضيق في الوقت، ولكن لأني لم أكُن أداوم على الحفظ.
إن حفظتُ يوماً انقطعتُ أسبوعاً، وإن داومتُ أسبوعا انقطعتُ شهراً وظللتُ على ذلك الحال حتى دخولي الصف الثاني الثانوي.. فقلتُ في عزم يفل الجبال: لابد وأن أحفظ القرآن.
وبالفعل جعلتُ كامل وقتي للقرآن الكريم، فكنتُ أحفظه في كل وقت، صباحاً ومساءً، صبحاً وعصراً وعشاءً، قبل نومي، وأول يقظتي، في الطريق والسوق والمسجد والبيت، قائماً وقاعداً ومضطجعاً، حتى أنني أذكر أني كنتُ في لجنة امتحان نهاية العام الدراسي في إحدى المواد، فلما انتهيتُ من الإجابة أغلقتُ ورقة الأجوبة ثم أخرجتُ المصحف من “جيبي” وشرعتُ في الحفظ، رغم أن ذلك أصلاً ممنوع؛ لكن دفعني لذلك أن ورائي تسميع على الشيخ عقب موعد انتهاء الامتحان بأقل من ساعتين، والأولوية القصوى في حياتي تلك الفترة
كانت للقرآن الكريم وحفظه.
في البداية كان الموضوع عسيراً عليَّ، وربما لم أحفظ في يوم واحد أكثر من ربع واحد، ولا تستكثرنَّ الربع وانظر إلى الوقت الذي كنتُ أصرفه للحفظ، وأذكر أني سَمَّعْتُ سورة “الطلاق” ـ على صغرها ـ في يوم كامل، وسَمّعْتُ سورة “التحريم” ـ على صغرها أيضًا ـ في يوم كامل، ثُم بدأت فتوحات الله تعالى على الفقير، فقويت الذاكرة باستمراري في الحفظ واعتيادها التخزين، فبتُّ أُسَمِّعُ في اليوم الواحد ما لا يقل عن رُبعَين ـ حوالي خمسة أوجه ـ ثُم كان من توفيق الله تعالى قُبيل ختمي أني ربما حفظتُ في اليوم الواحد نصف جزء، وكنت أُسَمعُ يومياً، وأذكر أني قمتُ بتسميع سورة “المائدة” كاملة على شيخي في مرة واحدة، و”البقرة” كاملة على ثلاث مرات.. إلى أن أنهيتُ حفظ القرآن كاملًا في أربعة أشهر ونصف تقريباً. أكتب هذه الكلمات الآن وأنا أبتسمُ إذ تذكرت حالاً أبي ـ حفظه الله ـ حين كنتُ أجلس معه من فترة قريبة وكان معنا عدة أشخاص والحديث يدورُ حول القرآن الكريم وحفظه، ثم فجأة قال لي أبي: لقد كنتُ أجلس مع الشيخ سمير من يومين ـ الشيخ سمير جاد المولى القرماني الذي ختمتُ عليه القرآن ولا يزال حيا أطال الله بقاءه ومتعه بالعافية ـ وقال لي: هل تعرف أن أسرع شخص في تاريخي يختم عليَّ القرآن الكريم كاملًا هو ابنك عادل؟ لقد ختمهُ في أقل خمسة أشهر!
يا الله على وقع هذه الكلمات عليَّ، قسماً بخالق الأكوان كدت أطير وقتها سعادة، سندٌ ذهبي، أبي يُحدثني عن شيخي.
وسبب سعادتي أن الشيخ سمير ما زال يذكر ذلك وهو الذي مرّ عليه أعداد غفيرة من الطلبة، بل ربما حفظ عليه الرجل ثُم ابنه ثُم حفيده!
الشيخ سمير الذي له في نفسي مهابة الأسد، والله حتى وقت قريب كنت إذا رأيته قادماً من شارع سرتُ من الشارع الآخر هيبةً له أن ألتقيه فتقع عينه على عيني، وهو ـ حفظه الله ـ أول من أدخلني أصلي بالناس إماماً في تلك الفترة، كان ذلك في شهر رمضان في صلاة الفجر في أكبر مسجد في بلادنا، والمسجد أشد ازدحاماً من صلاة الجمعة، فتضاعفتْ المسؤولية على عاتقي، مسؤولية الصلاة بالناس لأول مرة في هذا الزحام الشديد، وفي من خلفي أبي وإخوتي، ثُم أمّي أيضاً تصلّي خلفي مع النساء، ومن جهة أخرى مسؤولية وثوق الشيخ سمير بي، وتقديمه لي كي أصلي بالناس رغم أنّ فيهم من هو أكبر مني وأعلم مني وربما أحفظ مني أيضا.
وظللت دانياً من الشيخ، قريباً منه، ولم أنقطع عنه بمجرد ختمي القرآن عليه، بل مكثتُ معه طويلاً، وكان ـ حفظه الله ـ مُقدراً لي، حتى أنه من النادر أن يُناديني باسمي مجردا، وكلما عَرض له أمر أو ما شابه يمنعه عن المداومة في الكُتَّاب يُرسل لي يستدعيني من البيت، فيجلسني مكانه على كرسيه، لأكون شيخ الكُتَّاب ومديره في غيابه، مسؤولا عن أكثر من مِئتي أو ثلاث مئة طالب. وكذا في حلقة التجويد التي كان يُدرسنا إياها في بيته، كان يحدث أن يغادر الحلقة لسبب ما، فيتركني مع الطلبة ـ وأنا أحدهم حينها ـ فيقرؤون وأصوب لهم. ولا يزالُ إلى اليوم يَصلني عنه من غير واحد، سواء من مشايخي المُقربين منه، أو من بعض أبنائه، الكثير من ثناءاته على الفقير، فاللهم لك الحمد أن رضَّيت عني أعظم من له الفضل عليَّ بعد والدَيَّ.
حفظ الله شيخي، و أطال في عمره، وبارك له في جسده وماله وذريته هو وكل مشايخي ومن علموني، آمين يا رب العالمين.”.

وإلى هنا ينتهي نصه، ويختم الباب الذي كان عنوانه أول كلامه، وكما ترى فقد كان رأيي في موضوع قصص المعاصرين كرأيه، فحمدا لله على أنني لست في هذا الأمر يتيما.

ولكنني حين رأيت هذه النماذج التي لم يعد معها عذر لي فلا العصر مختلف ولا المصر -البلد، وجمعه أمصار- منعزل، فإن كثيرا منهم من مصر أصلا، ومع أنها ليست بلدي رسميا بل ولا العالم العربي ولا حتى الإسلامي كله، إلا أنني أعتبرها بلدي وحبي لها وثيق، وأعتبر نفسي مصريا لطول المكث وتطاول زمن الاستيطان.

وإني لأحبها ومن أبرز أسباب حبي لها كونها بلد إسلام ولله الحمد، وليس هذا فقط بل الإسلام فيها ضارب بجرنه إن شاء الله، ومهما قيل ومهما تعلل البعض فالخير فيها إن شاء الله.

وأحب بلاد الإسلام كلها، لكن مصر وبلاد الحرمين من أحبها إلي، وأفضل بلاد الإسلام على غيرها عموما، لكن هذا لا يعني أن أميل إلى أي جماعات منحرفة فكرا أو عملا، من تلك التي تحارب بلادا غير إسلامية، فضلا عن جعلها لبلاد إسلامية بلادا غير إسلامية، وما ذاك إلا خطل في الرأي وانحراف في الفكر وفساد في العقيدة واختلال في العقل، فهدانا الله وإياهم.

وإني لأبرؤ منهم ومن غيرهم في سياق وتفصيل أرجو أن أعرج عليه في تلك الصفحة التي لم تر النور بعد “عني وعن المدونة” التي أضجرتكم بذكرها والثناء عليها😏 ولكن ما للمعذور حيلة.

نرجع إلى أصل المقصود، فأقول: ما إن استوفيت قراءة تلك النماذج حتى احتقرت نفسي كل احتقار، وازدريتها وأي ازدراء، وصارت في عيني في أسفل سافلين، حقيقة وليس تنظيرا فقط، وآمنت أنني حقا ليس لي من الأمر شيء.

وكفى بتلك الفائدة من القصص فائدة.

(فاعتبروا يا أولي الأبصار) 

فالزموا قراءة قصص الصالحين فإنها الركن إن خانتك أركان، مجازا 😁وليس حقيقة تماما، وإن كان لها من الحقيقة شيء، لأنها متعلقة بالدين، حيث ترفع الهمم في سبيل الدين لا غيره، لكن الركن الحقيقي مطلقا هو الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، ومما يتعلق باللهِ الدينُ، يعني كل شيء متعلق بالله وما أمر به أو نهى عنه.

والله أرجو النفع والقبول، وعليه اتكالي ومنه رجائي، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


اكتشاف المزيد من شذا العصور (مدونة منذر البشري)

اشترك للحصول على أحدث التدوينات في بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا أنا، منذر البشري، أرحب بك في مدونتي، هنا نطوف معا ونجول في طرقات تلك المدينة الهائلة، مدينة العصور الثلاثة، القديمة والحاضرة والمستقبلية، لدي الكثير مما أخبرك عنه وأشاركه معك، فهل تمانع لو دمجت مع التاريخ والأحداث والوقائع بعضا من يومياتي وخواطري ورُؤاي، امم🧐، لم أسمع اعتراضا👂، أظنك وافقت!😀 نعم، بافتراض أنك موافق؛ لِنمضِ قدما!

إن أردت أن تتواصل معي؛ فحيهلا بك😄

هنا أحدث مشاركاتي بإذن الله

اكتشاف المزيد من شذا العصور (مدونة منذر البشري)

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

مواصلة القراءة

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ